يتولى السياسيون مناصب مهمة بصفتهم قادة مسؤولين أمام مجتمعاتهم، فيُوجّهون الدول الضخمة والمعقدة التي يرأسونها، وتستلزم هذه العملية عموماً قدرة واسعة على استمالة المجتمعات لتحقيق المصالح الجماعية والخير العام، لكن ينشغل السياسيون أيضاً بابتكار شكلٍ من الحماس خدمةً لمصالحهم الخاصة، ما قد يدفعهم إلى إثارة مشاعر قاتمة لدى الناس سعياً إلى تحقيق مكاسب شخصية، وفي الوقت الراهن، يتفوق الهدف الثاني على الأول في معظم البلدان، وهذا ما يفسّر تجدّد الاضطرابات وغياب الاستقرار حول العالم.لكن يبدو أن أستراليا تخلّت عن هذه النزعة العاطفية الشائعة، بعد مرور خمسة أشهر على تشكيل الحكومة الجديدة، إذ تبدو سياسة البلد مملة على نحو ممتع، وتبرز طبعاً مجموعة من المسائل الجدّية والمشاكل الكبرى التي تحتاج إلى حل، لكن أصبح أسلوب الحُكم بحد ذاته أكثر انضباطاً وتماسكاً، فلا شيء يثبت أن «حزب العمال» يتجه إلى بث الحماس لدى الناس (بطريقة إيجابية أو سلبية)، لكن قد تكون هذه المقاربة ميزة حقيقية.
لا يمكن اعتبار رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، بارعاً في إلقاء الخطابات مثلاً، بل إن لهجته العامية توحي بأن التكلم بحد ذاته مهمة صعبة، فهو لا يحمل أفكاراً مبتكرة ولا يبدو حيوياً بأي شكل، حتى أن أحداً لا يستطيع اعتباره زعيماً مُلهِماً للآخرين، لكنه يبدو شخصاً هادئاً، وعميق التفكير، وصادقاً، وجديراً بالثقة، وتُعتبر هذه الصفات بالغة الأهمية في هذا العصر الذي تطغى عليه الاضطرابات وانعدام الثقة بالسياسيين.أو ربما ينجم نجاح أستراليا محلياً في الوقت الراهن عن بعض الخصائص الأسترالية الفريدة من نوعها، ويميل الأستراليون بطبيعتهم إلى التشكيك بكفاءة الشخصيات الكاريزماتية، لذا يصعب أن ينجذب الرأي العام المحلي إلى المقاربات المبنية على شخصية الزعيم، كما حصل في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية، وتُعتبر السياسة في أستراليا أقرب إلى وظيفة إدارية، لذا قد يتعرّض الشخص الذي يتفاخر بنفسه أو يدّعي أنه صاحب أفكار مبهرة للازدراء، وفي هذه الحالة، قد تصبح المواقف الأسترالية المملة ضمانة ديموقراطية لا يقدّر الكثيرون قيمتها.قد يقتنع «حزب العمال» الأسترالي بمفهوم «دعم الأصدقاء» الذي طرحته نائبة رئيس الوزراء الكندي، كريستيا فريلاند، حيث ترتكز سلاسل الإمدادات على القيم المشتركة، وحقوق الإنسان، والعلاقات القائمة على الثقة، بدل الفاعلية الاقتصادية المحض، فهذه المقاربة ليست عملية فحسب (بما أن التجارة مع الصين تتأثر عموماً بنزوات الحزب الشيوعي)، بل إنها قد تصبح أداة فاعلة لإقناع الرأي العام الذي لا يثق راهناً بالديموقراطية الليبرالية بأن هذا النهج يتكل على شبكات وقدرات لا يمكن أن تضاهيها الأنظمة الاستبدادية.قد تعطي شبكات التفاخر المبنية على التعاون شعوراً بأهمية السياسة، وهو وضع تبحث عنه شريحة واسعة من الرأي العام الغربي، وسيكون تجريد عالم السياسة من المشاعر بالكامل هدفاً مستحيلاً وخاطئاً، ويُفترض أن تطلق أحداث مثل الغزو الروسي لأوكرانيا ردود أفعال عاطفية، ويجب أن تُوجّه هذه الردود التدابير العملية التي تسمح بتقديم المساعدة إلى من يحتاجون إليها، وتأمين الهياكل التي تمنع تكرار هذا النوع من الأعمال الوحشية. قد يصبح مفهوم «دعم الأصدقاء» عملياً ويشكّل مصدر إلهام إيجابي، فينتج مصلحة جماعية قادرة على التصدي للتحالفات الضيقة والخطيرة التي تبث عواطف سلبية.على صعيد آخر، قد تتمحور السياسة حول إيجاد توازن دقيق بين الاستقرار والإلهام، حيث يحاول «حزب العمال» الأسترالي مثلاً تطبيق أفكار معينة لتطوير أجزاء من الروح الوطنية، مثل تنظيم استفتاء لمنح السكان الأصليين الأستراليين صوتاً يعترف به الدستور في البرلمان، لكنه يحاول تحقيق هذا الهدف بأعلى درجات الانضباط والدقة، وسيكون إجراء ذلك الاستفتاء بدعمٍ من معظم الأفرقاء عاملاً أساسياً لإقامة التوازن المنشود.من المتوقع أن يستمر نجاح الحكومة الأسترالية الجديدة بفضل قدرتها على إبطال مفعول أي شكوك ناشئة، فلا داعي كي تكون مساعي حماية الديموقراطية الليبرالية عاطفية وحماسية، بل يكفي أحياناً أن تكون معتدلة وفاعلة، وإذا أرادت أستراليا أن تطرح نفسها كقدوة إيجابية في العالم، يمكنها أن تُحقق هذا الهدف بكل سلاسة.* «غرانت ويث »
مقالات
قوة أستراليا في سياستها المملة على نحو ممتع
24-10-2022