في فراغ اللحظة وبهتانها
كثرت المدارس والجامعات ولم تتغير العادات والتقاليد، خصوصاً فيما يتعلق بالنساء، وربما كما قال الأولون إن النساء هن من يخلقن رجالاً ذكوراً غير قادرين على احترام آدمية المرأة، وعدم النظر إليها كسلعة أو مادة للإغراء فقط.
في مقهى شديد الأناقة هو بتفاصيله باريسي وقد اكتظ في ساعات الصباح للباحثين عن وجبة إفطار شهية وغنية. كانت هي جالسة مع من يبدو أنه زوجها تتناول الطعام من خلف النقاب، فمع كل رشفة شاي أو قضمة للكرواسان ترفع غطاء الوجه وتعيده، بينما هو جالس بكثير من الارتياح يتناول ما لذ وطاب ويتجول بنظره ليلتقط تفاصيل كل فتاة وامرأة تمر من أمامه أو تجلس مع بعض الرفيقات. لم تكن هي الوحيدة، فجأة بدأت أفواج من الرجال الذكوريين جدا السائرين بفخر في مقدمة مجموعة من النساء ربما هن زوجاتهم أو بناتهم المتعلمات بالطبع كما تشير التقارير والإحصائيات إلى أن عدد النساء المتعلمات وبدرجات علمية عالية في ارتفاع شديد في مجتمعات الخليج، وربما في الكثير من الدول العربية الأخرى. المشهد يتغير بشكل أو آخر ويبقى كثير من التفاصيل اليومية لحياة النساء هنا كما هي أو ربما تتراجع بسرعة لا تتناسب مع الشعارات و»مانشيتات» الصحف و»التطبيل» اليومي لاهتمام القائمين على هذه الدول بدور المرأة وتعزيزه...
هناك فئة بالتأكيد تمكنت من كسر هذا الحاجز، ليس بفضل المجتمع والقوانين، بل بفضل سيدات قدمن الكثير من التضحيات في مجتمعات لا تزال تستخدم لفظ «حرمة» بكثير من السهولة، بل يستغرب البعض إذا رفضتَ هذه التسمية أو أبديت امتعاضك.تتكرر المشاهد واحداً خلف الآخر، كلها بالفعل تبدو وكأن النساء عدن إلى زمن الجاهلية الأولى، بينما الكلام واللبس والشعارات وبعض التقارير الرسمية تعرض صورة أخرى مختلفة تماماً. هناك فرق بالطبع بين الشعب نفسه، فهناك فئة تعيش حياة توازي كل فئات الشعب الأخرى، فلا تلتقي حياتهم بأولئك ولا يتم الاحتكاك بكل فئات البشر الآخرين إلا عند الضرورة وفي المناسبات الرسمية أو عند الدوائر الرسمية لإنجاز بعض المعاملات، وهذه الأخرى قد تحولت لتصبح إلكترونية لا ورقية، وليست هناك حاجة لذهاب الشخص بنفسه. إذن هناك شريحة واسعة تعيش حياة بعيدة كل البعد عن حياة فئة صغيرة جدا هي «كريم دي لا كري» المجتمعات كما يقال، ليس بقدراتها وعلمها ولكن بمالها وجاهها ونفوذها واهتماماتها وحتى لغتها!! تلك الشرائح الواسعة، ومنها تلك النساء الراضيات، بإرادتهن أو بإرادة العائلة والقبيلة والمجتمع، بأن يكنَّ في الخلف دوما حتى لو كان المتقدم عنهن «ذكراً» قليل العلم والفهم والذوق أيضا!! مذهل كم تتقبل النساء في أوطاننا «الذل» في تغليفة جميلة تسمى احترام العادات والتقاليد أو حتى الدين أو أقوال لرجل دين لم يتخط الجهل بعد! لا تلتقي حيوات النساء هنا وهناك ولا تتقاطع دروبهن إلا ربما إذا اضطر البعض للقاء في المقاهي العامة رغم أن مقاهيهن غير مقاهي فئات الشعب الأخرى! تنظر تلك المرأة من خلف نقابها للقادمة ببنطلون الجينز الملتصق بجسدها وبلوزه شفافة، تنظر بكثير من الازدراء، وقد تتلفظ بكلمات أحيانا: «ما في حشمة أو بلا أخلاق» وأحيانا لتسهيل الأمر عليها وعلى الأخريات مثلها، تردد: هذه ليست من بلدنا بل أجنبية أكيد أكيد، وربما تضيف أيضا أنها «مب مسلمة»! فهن يرين، من خلف فتحة ضيقة في النقاب هي نفسها ربما النافذة الوحيدة التي يطللن منها على العالم الواسع، أن غير المسلمات هن النساء غير المحتشمات في فهم ضيق للأديان حتى السماوية منها. نساء هنا ونساء هناك ومثلهن رجال، ولكن في حالة النساء يبدو الوضع مع تلك الفئة الواسعة التي تكدح ليلاً ونهاراً لتربي وتعلم وتساهم في المدخول مع الذكور بالعائلة، يبدو الوضع مختلفاً جداً فهذه فئة لا تعرف كيف تعبر الحواجز أو ربما تكسرها، ولا تتصور أن هناك حياة بل حيوات أخرى غير تلك التي عرفتها منذ صغرها عندما قرر والدها، وهي في سن العاشرة أن يلبسها غطاء لشعرها تحت ذريعة أنها كبرت، وعليها أن تحتشم... تذكرت حديثاً قديماً لزميل أميركي كنا سوياً في الجامعة، وكان يكثر من الأسئلة عن مجتمعات الخليج والعرب ككل، فيكرر: لماذا لا يبدو رأس الرجل عورة؟ ولماذا لا يثير الرجل المرأة أيضا كما تثيره هي؟ ثم يعود ليقول: من قال إن شعر المرأة هو الأكثر إثارة؟ ومن قال إن الطفلة في العاشرة تبدو مثيرة لرجل «غير مريض»؟ وكثرت أسئلته، وهنا توقفت عن التفكير والإجابات غير المتوفرة وغير المنطقية للكثيرين. كثرت المدارس والجامعات ولم تتغير العادات والتقاليد، وخصوصاً فيما يتعلق بالنساء، وربما كما قال الأولون إن النساء هن من يخلقن رجالاً ذكوراً غير قادرين على احترام آدمية المرأة، وعدم النظر إليها كسلعة أو مادة للإغراء فقط. والمحزن أن هذه المشاهد لم تكن موجودة في معظم مجتمعات الخليج حتى السبعينيات من القرن الماضي، فماذا حدث؟! ومن جعل من المؤسسات الدينية المتخلفة أداة ووسيلة ووسيلة للسيطرة على المجتمعات بشكل أو آخر، ومنحها قوة حتى تحولت إلى غول ومرض ينخر في مجتمعات كانت يوماً مشرعة على العالم؟! هي بالفعل لحظة باهتة وفارغة جداً. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
● د. خولة مطر
المشاهد تتكرر وكأن النساء عدن إلى زمن الجاهلية الأولى بينما الكلام واللبس والشعارات وبعض التقارير الرسمية تعرض صورة أخرى مختلفة تماماً