فلسطينيّون يبنون المستعمرات الإسرائيليَّة!
يؤدي البلاط الفلسطيني، هيثم عصفور، على غرار كثر من أبناء بلده، عملاً مثيراً للجدل من الناحية السياسية: يبلّط منازل العدو.يعمل عصفور في مشاريع بناء في المستعمرات اليهودية المتنازع عليها، التي تهدّد راهناً بتعطيل مفاوضات السلام.
لا يمكن للإنسان التمسّك بمبادئه، ما لم يستطع تحمّل كلفتها. والتمسّك بالمبادئ في نظر فلسطينيين كثرٍٍ في الضفة الغربية باهظ جداً. يوضح هيثم عصفور: {لا شك في أنني أكره عملي، لكن ما بيدي حيلة. أُرغَم على خيانة فلسطين}.يشارك هذا الفلسطيني في بناء مستوطنات يهودية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل في الضفة الغربية. فيعمل يومياً في تبليط أرضيات منازل يمنع القانون الدولي تشييدها. وهو يبني راهناً العقبات التي تسد درب السلام في الشرق الأوسط. فقد باتت مفاوضات السلام، التي استُؤنفت في سبتمبر (أيلول) الفائت برعاية الولايات المتحدة الأميركية، مهدّدة بالانهيار بسبب إصرار إسرائيل على مواصلة بناء المستوطنات في الضفة الغربية.عملي سبب تعاستيتجميد بناء مستوطنات جديدة مسألة رئيسة في الجولة الراهنة من مفاوضات السلام في الشرق الأوسط. فقد هدّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالانسحاب من المحادثات، في حال عادت إسرائيل إلى تطبيق برنامج بناء مكثّف في الأراضي الفلسطينية، بعد أن انتهى تجميد المستوطنات الذي دام 10 أشهر.يعي عصفور، بخلاف كثرٍ، أن هذا التجميد ما كان إلا حبراً على ورق. يخبر: {لم أتوقف عن العمل طوال الأشهر العشرة. صحيح أن العمل لم يكن بالكثافة عينها كما سابقاً، لكنه لم ينقطع مطلقاً}. ويعود ذلك في جزء منه إلى أن السلطات سمحت بإنهاء المنازل التي كانت قيد الإنشاء أثناء فترة تجميد المستوطنات. علاوة على ذلك، لم يواجه التوسّع في القدس الشرقية أي عائق.مع انتهاء تجميد المستوطنات في 30 سبتمبر، أُلغيت القيود كافة المفروضة على أعمال البناء. ولم يعِق هذه الأعمال إلا احتفال اليهود بعيد المظلة (سوكوت)، الذي تتوقف معه الأشغال كلّها. لكن عصفور يؤكد أنها {ستستعيد زخمها مع نهاية الأعياد}. فقد أصبح برنامجه حافلاً. يعمل نحو 25 ألف فلسطيني بانتظام في بناء مستوطنات العدو. ويخبر عصفور أنه يتلقى غالباً اتصالات من {رجال يودّن العمل هناك}.ضاق هذا الفسلطيني البالغ 33 سنة ذرعاً بمَن استشاطوا غضباً بسبب انتهاء تجميد المستوطنات. يوضح: {يجب أن أؤمن قوت عائلتي، ويدفع المستوطنون ضعف ما أتقاضاه من الفلسطينيين}. يعتبر هذا الفلسطيني الولاء للقضية الفلسطينية لعبة حسابات. فإذا عمل يوماً كاملاً في رصف البلاط في قرية فلسطينية، تقاضى 40 يورو (55 دولاراً). أما في المستوطنات الإسرائيلية، فيجني 80 يورو.يذكر عصفور، الذي يبلغ ابنه البكر العاشرة: {لا أريد أن يعيش ابني حياته وهو جاثٍ على ركبتيه مثلي}. بيد أن كلفة المدرسة باهظة، وكذلك الكتب وزي المدرسة وحافلتها. ويقول: {عملي سبب تعاستي، لكني أقوم به لأجل ابني}.وراء الأسلاك لا ينزعج عصفور لأن البلاط اليهودي الذي يعمل في المستوطنات يتقاضى 160 يورو. يوضح: {إذا أمعنت التفكير في هذه المسألة، فلن أذوق طعم السعادة}. لكن ما يغضبه حقاً رفض المستوطنين أحياناً تسديد كلفة العمل الذي أنجزه. واجه عصفور هذه المشكلة السنة الماضية، حين رفض مستوطن أن يدفع له ما يُقارب الألفين والثلاثمئة يورو. وبعد أشهر من المناورات، أعطاه 550 يورو، ثم بدأ يتجاهل اتصالاته. لاحقاً، التقى به عصفور صدفة. فأخبره المستوطن بكل صراحة أنه لن يدفع له بدل أتعابه. يروي عصفور: {قطّب جبينه وقال: إفعل ما يحلو لك، فلن أدفع لك المال}. فأجابه عصفور: {إذا رأيتك هنا مجدداً، سأقتلك}.يعيش آل عصفور في سنجل، قرية تعد 5 آلاف نسمة تقع شمال شرق القدس، على بعد نحو 20 كيلومتراً. تتمتع هذه القرية بأهمية تاريخية، إذ بنى فيها الصليبيون قلعة سان جيل على الجرف الصخري الضخم الذي يحتضن المنازل راهناً. وتستمد اسمها اليوم من الحصن القديم.لا بد من أن حياة عصفور تبدو غريبة. يستيقظ هذا البلاط يومياً مع بزوغ الفجر ويقصد جيرانه الذين يكرههم. فيجتاز الأودية التي يلفّها الضباب عادة في الضفة الغربية، متوجّهاً إلى مستوطنات مثل عوفرا وبيت إيل. عند بوابات المستوطنات الضخمة، التي تكون إلكترونية غالباً، يخضع العمال الفلسطينيون للتفتيش بحثاً عن أي أسلحة. فوراء تلك الأسلاك الشائكة يقع عالم آخر. تدفع الحكومة الإسرائيلية كلفة كل ما ينعم به المستوطنون من كهرباء وماء وطرقات وبنى تحتية. يذكر عصفور: {تحظى المستوطنة الأفقر بتجهيزات أكثر حداثة من أفضل المدن في فلسطين}.فلسطين لا تدعمنييُضطر عصفور أحياناً إلى الدوس على كرامته ليتمكّن من إنهاء عمله. يخبر: {يستغل بعض المستوطنين الفرصة ليعظونا}. ثم يخبر الإسرائيليون العمال بأن الأرض المحيطة بهم ملكهم وأن الفلسطينيين يجب أن يغادروا البلد الذي وعد الله بإعطائه لليهود. ويقولون لعصفور: {عليكم الرحيل من هذه الأرض}. لكنه يستدرك مؤكداً أن {ثمة مستوطنين لطفاء}. ثم يسكت عن الكلام طويلاً، محاولاً تذكّر حادثة مماثلة. ويسارع بعد ذلك إلى القول: {أخبرني رجل ذات مرة بأننا نحن أيضاً نملك الحق بأن نعيش هنا}.يلقي هذا الفلسطيني اللوم على عاتق الحكومة الفلسطينية، محملاً إياها مسؤولية تدني الأجور. لكن غياب السلطة الفلسطينية عائد في جزء منه إلى مستوطنات جديدة لا تنفك تظهر، بما فيها تلك التي يساهم عصفور في بنائها. لذلك، يسأل: {ما العمل في هذه الحالة؟ أدعم فلسطين كلما استطعت، لكن فلسطين لا تدعمني}.فعلى غرار عشرات آلاف الفلسطينيين، يقاطع عصفور البضائع التي تنتجها المستوطنات الإسرائيلية، محاولاً بذلك اتخاذ موقف رافض لوجودها.ضحايا الجرافاتيعتبر عصفور نفسه محظوظاً لأن عائلته وأصدقاءه يتفهّمون طبيعة عمله. فهم، كما يقول، {يودون الحصول على عمل مضمون مثل عملي}. حتى السلطات تتكتّم حيال عمل هؤلاء الفلسطينيين، الذين يشبهون عمالاً مهاجرين داخل بلدهم، وتتركهم بسلام.لا يعتقد عصفور أن الجولة الأخيرة من المحادثات سيُكتب لها النجاح. وعن هذه المسألة يقول: {نتحاور منذ 18 سنة. فلمَ يرغب الإسرائيليون في تقديم التنازلات لنا في هذه الجولة؟}. لكن هذا الفلسطيني، الذي رُزق بأربعة أولاد، يؤمن على رغم ذلك بأن الدولة الفلسطينية ستُبصر النور ذات يوم.عندما انسحب الإسرائيليون من قطاع غزة هدموا المنازل كافة في المستوطنات اليهودية المحلية. فهل يعتقد عصفور أن الأرضيات والحمامات التي بلّطها ستقع يوماً ضحية الجرافات؟يتخيل عصفور سيناريوهين. فإما تُعطى المستوطنات التي يخليها الإسرائيليون إلى اللاجئين الفلسطينيين العائدين {وهذه خطوة ممتازة} في رأيه، أو تهدم إسرائيل المباني كافة قبل مغادرتها الضفة الغربية. وإذا كان هذا ثمن الحرية، يؤكد عصفور أن سعادته ستفوق أي أسى قد يشعر به حيال البلاط المتكسّر.