دماغنا... كيف يُبلغنا أنّنا عطشى؟
وضعت دراسة جديدة خريطة دارات الدماغ التي تنبئنا بضرورة شرب الماء ومتى نرتوي، بعدما كشف البحث هرمية عصبية بتحفيز الحاجة إلى شرب الماء وكبحها لدى الفئران.
العطش شعور يألفه كل إنسان وحيوان، يشكِّل تجربة شائعة جداً، حتى إن قلة منا تفكر فيها. لكنها تُذهل علماء الأعصاب.العطش حالة بالغة الأهمية نظراً إلى ارتباطها باستمرارية الكائن الحي، فسرعان ما يموت الحيوان الذي لا يشرب السوائل عندما يحتاج إليها.من دون ماء، يتوقّف معظم العمليات في الجسم. وفي حالة الإنسان، يحلّ الموت سريعاً في غضون بضعة أيام.
صحيح أن فكرة أن دماغنا يستطيع رصد معدلات الماء في الجسم ويحفّز الرغبة في شرب الماء لا تُعتبر جديدة، إلا أن علم الأعصاب الدقيق وراءها بدأ ينكشف تدريجياً أخيراً.أجرى أحدث دراسة تناولت آلية العطش يوكي أوكا، بروفسور مساعد متخصص في علم الأحياء في معهد كالتيك في باسادينا. نُشرت نتائجها في العدد الأخير من مجلة «الطبيعة».
ضبط العطش
أظهرت دراسات سابقة أن بنية شبيهة بصفيحة في الجزء الأمامي من الدماغ تُدعى الصفيحة الانتهائية تؤدي دوراً مهماً في ضبط العطش، وتشمل ثلاثة أجزاء: عضو الصفيحة الانتهائية الوعائي، والعضو تحت القبو، والنواة الوسطى أمام التصالبة البصرية.ينفصل أكبر جزء من الدماغ عن مجرى الدم بواسطة حاجز دماغي-دموي. بالإضافة إلى أدوار أخرى، يحمي هذه الغشاء الدماغ من الممرضات، كالبكتيريا. لكن العضو تحت القبو والنواة الوسطى أمام التصالبة البصرية يشكلان استثناء. فلا يحميهما هذا الحاجز، بل يحتكان مباشرةً بمجرى الدم.يسمح لهما هذا التواصل المباشر مع الدم بتقييم مدى تركيز الصوديوم. لذلك تشكّل «ملوحة» الدم مؤشراً جيداً إلى مدى ترطيب جسم الحيوان.أظهرت الأعمال السابقة أن الصفيحة الانتهائية تحتوي على خلايا عصبية استثارية. وعندما تُحفَّز الأخيرة في حالة الفأرة، تقود إلى الشرب. في الدراسة الجديدة، اكتشف العلماء أن النواة الوسطى أمام التصالبة البصرية تُعتبر مهمةً خصوصاً لأنها تتلقى معطيات استثارية من العضو تحت القبو لا العكس.أظهر الباحثون أن «تحفيز عضو الصفيحة الانتهائية الوعائي والعضو تحت القبو لا يعود يدفع الفأرة إلى الشرب عندما تُطفأ الخلايا العصبية الاستثارية عموماً» في النواة الوسطى أمام التصالبة البصرية.هرمية العطش
تُعتبر هذه أول دراسة تصف تنظيم الصفيحة الانتهائية الهرمي: تجمع النواة الوسطى أمام التصالبة البصرية المعلومات من عضو الصفيحة الانتهائية الوعائي والعضو تحت القبو وتمررها إلى مراكز الدماغ الأخرى كي تحفّز نشاط الشرب.علاوة على ذلك، حقق العلماء بعض التقدّم نحو الإجابة عن سؤال آخر يرتبط بسلوك الشرب: متى نعرف أن علينا التوقف؟ يوضح البروفسور أوكا هذه المعضلة، قائلاً: «عندما تعاني الجفاف، تشرب الماء لبضع ثوانٍ ثم تشعر بالارتواء».يتابع: «ولكن في هذه المرحلة، لا يكون الجسم ارتوى بعد، بل يحتاج عادةً إلى 10 أو 15 دقيقة. لذلك، يعجز عضو الصفيحة الانتهائية الوعائي والعضو تحت القبو عن رصد عملية إعادة الترطيب بعيد شرب الماء. رغم ذلك، يدرك الدماغ بطريقة ما متى يلزم التوقف عن الشرب قبل أن يُعاد ترطيب الجسم بالكامل».يُشير هذا إلى إشارة أخرى أكثر سرعة تنبئنا بضرورة التوقّف عن الشرب. تُظهر الدراسات أن الخلايا العصبية الاستثارية في الصفيحة الانتهائية تسكت عندما تبدأ الفأرة بالشرب. إلا أن العلماء يجهلون كيفية حدوث ذلك بالتحديد.برهن البروفسور أوكا وفريقه أن خلايا عصبية مثبطة في النواة الوسطى أمام التصالبة البصرية تتفاعل مع عملية الشرب الجسدية وتكبح نشاط خلايا العطش العصبية في العضو تحت القبو. واللافت أن هذه الخلايا العصبية المثبطة لا تنجز عملها إلا عند تناول السوائل لا الطعام.يعتقد العلماء أن هذا التمييز بين السوائل والأطعمة الصلبة ممكن بمراقبة حركة البلعوم الفموي، الذي يشكّل جزءاً من الحنجرة يؤدي دوراً في آلية البلع. يختلف نشاط هذا البلعوم عند شرب الماء عما يكون عليه عند تناول الطعام.تسهم هذه الاكتشافات في تعميق فهمنا شبكة التفاعلات المعقدة التي تنبئنا متى علينا شرب الماء. ولكن يؤكد فريق الدراسة أن ما زال إزاء العلماء الكثير لتعلّمه.يوضح البروفسور أوكا: «لا تنشط إشارات التثبيط التي اكتشفناها إلا خلال عملية الشرب. لكن الشعور بالارتواء يدوم فترة أطول بكثير. يُظهر هذا الأمر أن الخلايا العصبية المثبطة في النواة الوسطى أمام التصالبة البصرية لا يمكن أن تكون المصدر الوحيد للشعور بالارتواء».
من دون ماء يتوقّف معظم العمليات في الجسم